فصل: اللطيفة السابعة: فائدة ذكر: {الرحمن الرَّحِيمِ} عقب لفظ: {رَبِّ العالمين}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.اللطيفة الثالثة: الاسم والمسمّى:

يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل: {بسم الله} كقوله: بالله وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر

أي ثمّ السلام عليكما، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري.
قال ابن جرير الطبري: لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال: رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يُقال: أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟
أقول: الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك.
قال العلامة أبو السعود: وإنما قال: {بسم الله} ولم يقل بالله وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن، يعني التبرك، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك.

.اللطيفة الرابعة: الفرق بين لفظ: الله ولفظ الإله:

الفرق بين لفظ: {الله} ولفظ الإله أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره، ومعناه المعبود بحق، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره، وهو مشتق من ألَهَ ومعناه المعبود، سواءً كان بحق أو غير حق، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى آلهة جمع إله لأنها عُبدت بباطل من دون الله، وما كان أحد يسمى الصنم: {الله} بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل: من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله، وفيهم يقول القرآن الكريم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25].

.اللطيفة الخامسة: فوائد جليلة ل {بسم الله الرحمن الرحيم}:

في قولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} فوائد جليلة، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى، والتعظيم لله عز وجل، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله، وفيها إظهار لمخالفة المشركين، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى، وفيها إقرار بالألوهية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله تعالى، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما: {الله} و: {الرحمن}.

.اللطيفة السادسة: الألف واللام في: {الحمد} لاستغراق الجنس:

الألف واللام في: {الحمد} لاستغراق الجنس، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل، والحمد التام الوافي، إلاّ الله ربّ العالمين، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس، والصيغة وردت معرّفة: {الحمدُ لله} للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر، لا حادث متجدّد، فتدبره فإنه دقيق.

.اللطيفة السابعة: فائدة ذكر: {الرحمن الرَّحِيمِ} عقب لفظ: {رَبِّ العالمين}:

فائدة ذكر: {الرحمن الرَّحِيمِ} عقب لفظ: {رَبِّ العالمين} هي أن لفظ الربّ ينبئ عن معنى الكبرياء، والسيادة، والقهر، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع، واليأس، والقنوط، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب- جلّ وعلا- رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء.
قال أبو حيّان: بدأ أولًا بالوصف بالربوبيّة، فإن كان الرب بمعنى السيّد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ، ويقوى رجاؤه إن هفا.
قال ابن القيم: وأما الجميع بين: {الرحمن الرحيم} ففيه معنى بديع، وهو أنّ: {الرحمن} دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، و: {الرحيم} دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصفُ، والثاني الفعلُ، فالأول: دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني: دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوف رَّحِيم} [التوبة: 117] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته.
ثم قال رحمه الله: وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب.
ومجمل القول: أنَّ معنى: {الرحمن} المنعم بجلائل النعم، ومعنى: {الرحيم} المنعم بدقائقها.
وقيل: إنهما بمعنى واحد، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري: لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود.
والراجح: ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم.

.اللطيفة الثامنة: اشتمال الفاتحة على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:

قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس، واستجلاب القلوب، وهذا الإلتفات ضرب من ضروب البلاغة، ولو جرى الكلام على الأصل لقال إيّاه نعبد فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة الإلتفات ومثله قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ثم قال: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 22] وقد يكون الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة كما في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] فقد كان الكلام مع المخاطبين، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات.
قال أبو حيان في البحر: ونظير هذا أن تذكر شخصًا متصفًا بأوصاف جليلة، مخبرًا عنه إخبار الغائب، ويكونذلك الشخص حاضرًا معك، فتقول له: إيّاك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود، ما لا يكون في لفظ إيّاه.

.اللطيفة التاسعة: ورود الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين: {نَعْبُدُ} و: {نَسْتَعِينُ}:

وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين: {نَعْبُدُ} و: {نَسْتَعِينُ} ولم يقل: إياّاك أعبد وإيّاك أستعين وذلك لنكتةٍ لطيفة، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا، وطلبه الاستعانة والهداية مفردًا دون سائر العرب، فكأنه يقول: يا رب أنا عبد حقير، ذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين، وأدعوك معهم، فتقبّل دعائي معهم، فنحن جميعًا نعبدك ونستعين بك. وتقديم المفعول على الفعل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يفيد القصر والتخصيص كما في قوله: {وإياي فارهبون} [البقرة: 40] كما يفيد التعظيم والاهتمام به. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.
قال القرطبي: إن قيل: لم قدَّم المفعول: {إِيَّاكَ} على الفعل: {نَعْبُدُ}؟ قيل له: اهتمامًا، وشأنُ العرب تقديم الأهم، يُذكر أنْ أعرابيًا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: إيّاك عني، فقال له الآخر: وعنك أُعرض، فقدّما الأهم، وأيضًا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك، ونستعين، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك، وإنما يتبع لفظ القرآن، قال العجّاج:
إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي ** واغفر خطايايَ وكثّر ورقي

وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك.

.اللطيفة العاشرة: لا ينسب الشرّ إلى الله أدبًا وإن كان منه تقديرًا:

نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل: غضبت عليهم وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل، حيث لا ينسب الشرّ إليه أدبًا وإن كان منه تقديرًا كما قال بعضهم: الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك.
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78-80] فلم يقل: وإذا أمرضني أدبًا. وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] فلم يقولوا: أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق.

.الدقائق البيانية في سورة الفاتحة:

قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط: وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالمًا بافتتان الكلام، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:
النوع الأول: حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسنًا أن يكون مطلعها مفتتحًا باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة.
النوع الثاني: المبالغة في الثناء وذلك العموم أل في الحمد المفيد للاستغراق.
النوع الثالث: تلوين الخطاب في قوله: {الحمد للَّهِ} إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا: الحمد لله.
النوع الرابع: الاختصاص باللاّم التي في لله إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا.
النوع الخامس: الحذف وذلك كحذف: {صراط} من قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين} التقدير: غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين.
النوع السادس: التقديم والتأخير في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكذلك في قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين} وقد تقدم الكلام على ذلك.
النوع السابع: التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} حيث فسّر الصراط.
النوع الثامن: الإلتفات وذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم}.
النوع التاسع: طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} أي ثبتنا عليه.
النوع العاشر: التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى: {الرحمن الرحيم الصراط المستقيم} وقوله: {نَسْتَعِينُ وَلاَ الضالين}.

.وجوه القراءات:

أولًا: قرأ الجمهور: {الحمد للَّهِ} بضمّ دال الحمد، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة: {الحمدَ لله} بالنصب، قال ابن الأنباري: ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله.
قال أبو حيان: وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره.
ثانيًا: قرأ الجمهور: {ربّ العالمين} بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ: {ربَّ العالمين} بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره.
قال القرطبي: يجوز الرفع والنصب في: {ربّ} فالنصبُ على المدح، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين.
ثالثًا: قرأ الجمهور: {مَالِك يومِ الدّينِ} على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء: {مَلِك} بفتح الميم مع كسر اللام.
قال ابن الجوزي: وقراءة: {مَلِك} أظهر في المدح لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكًا.
وقال ابن الأنباري: وفي مالك خمسُ قراءات وهي: مالك، ومَلِك، ومَلْك، ومليك، ومَلاَك.
رابعًا: قرأ الجمهور: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بضم الباء، وقرأ زيد بن علي: {نعبِد} بكسر النون، وقرأ الحسن وأبو المتوكل: {إيّاك يُعبد} بضم الياء وفتح الباء.
خامسًا: قرأ الجمهور: {اهدنا الصراط المستقيم} بالصّاد وهي لغة قريش، وقرأ مجاهد وابن محيصن: {السّراط} بالسّين على الأصل.
قال الفرّاء: اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى، وعامة العرب يجعلونها سينًا، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان.